تاريخ الطب النفسي في بلاد المسلمين
عرف الإنسان الاضطرابات النفسية وكثيراً من وسائل علاجها منذ القدم، فهي لم تكن وليدة عصرنا هذا فقط، أو نتيجة لمتغيراته الحضارية، وما ارتبط به من اضطرابات سياسية واقتصادية، وإنما هي قديمة بقدم الإنسان ذاته على أرض الوجود. ولقد حاول الإنسان منذ عصور التاريخ المبكرة علاج تلك الأمراض بشتى الوسائل المتاحة لـه، وطبقاً لمعتقداته الروحية والاجتماعية تجاه تلك الأمراض. وتشير بعض الدلائل الأثرية إلى أن إنسان العصور المبكرة من التاريخ قد لجأ إلى فتح ثقوب في جمجمة المريض النفسي لتخرج منها الأرواح الشريرة الحبيسة بداخله !! أما البدايات العلمية لدراسة هذه الاضطرابات فقد بدأت في بلاد اليونان على يد أبقراط (460 –370 قبل الميلاد)، ومن بعده جالينوس (131-201م) اللذين اعتبرا الأمراض النفسية مثل سائر الأمراض الجسمية، وأنها تنشأ عن زيادة الأخلاط (السوائل) في الجسم، وليست عن أرواح شريرة، كما كان يعتقد غالبية الناس في ذلك الوقت. ثم تبع ذلك فترة تدهور خصوصاً في القرون الوسطى، حيث أصبح يُنظر إلى الأمراض النفسية على أنها ليست إلا مسًّا من الجن أو غضباً من الآلهة. وجاء الإسلام ليساهم بنظامه المتكامل الشامل المنظم لجميع شؤون الحياة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها في تقويم نظرة الناس إلى النفس البشرية، وأشار إلى شيء من أسرارها وخباياها. ولقد احتوى القرآن الكريم على وصف موجز لطبائع النفوس ووسائل علاجها، وكشف للإنسان عن بعض أسرار نفسه وأسرار الكون من حوله، ودعاه إلى دراسة هذه وتلك ليعرف ويتعلم، ومن ثم يتجه الاتجاه الصحيح. كما أضافت السنة النبوية الكثير، وفصلت ما ذكره القرآن مجملاً في هذا المجال، مما أعطى مجالاً لعلماء الأمة الإسلامية في توظيف تلك التوجيهات الإلهية في علاج الإنسان ووقايته من مختلف العلل النفسية والروحية، إلا أن هذا الفتح الكبير لم يستمر طويلاً بسبب تدهور الحضارة الإسلامية. وقد ظل علم النفس لفترة طويلة مجالاً لاجتهاد الفلاسفة والحكماء ورجال الكنيسة، ثم أصبح فرعاً من فروع علم النفس، ولم يستقل عنها إلا بعد أن أصبح له موضوعه ومنهجه الخاص به، وبعد أن بدأت بالظهور تلك التجارب المعملية على يد بعض العلماء مثل (جوستاف فخنز) (1801-1877م) و(وليام فنت) (1832-1920م). وقد ركز هذا العلم التجريبي الجديد جهوده في دراسة العقل الإنساني والعمليات العقلية الشعورية كالإدراك والتذكر والتفكير والنسيان وغيرها، وفي الوقت نفسه كان الأسلوب العلمي يأخذ طريقه إلى ميدان الطب النفسي لدراسة مشكلات الشخصية الشاذة ووسائل علاجها المختلفة.
ولعله مما سبق يمكن القول بأن مفهوم المرض النفسي قد مر بثلاث مراحل عبر التاريخ:
1ـالعصور القديمة من التاريخ: والتي اعتمدت بشكل مطلق على الخبرة الخاصة، وكان ذلك في مصر القديمة وفي الحضارات الآشورية والبابلية والصينية والهندية. وقد كان يعنى بمسائل عامة: كطبيعة الوجود وما وراء الطبيعة والروح والأخلاق والسياسة، وكل ما يُهم الناس في حياتهم العامة.
2ـالعصور اليونانية والعربية : والتي اعتمدت على المهارة الإكلينيكية (السريرية) والخبرة التجريبية، التي بدأت على يد أبقراط وجالينوس، ثم تم ترجمتها وتطويرها وتجديدها بواسطة العرب، وخاصة أبا بكر الرازي وابن سينا.
3ـالعصر الحديث: ويستند مفهوم المرض النفسي فيه إلى المنهج العلمي والبيولوجي (الحيوي) بشكل أساسي .
تاريخ الطب النفسي عند بعض الحضارات القديمة:
أولاً : عند الفراعنة:اعتقد قدماء المصريين أن قوى خفية موجودة في الكون تؤثر في سلوك الإنسان، وقالوا: إن السلوك هو تفاعل أو محصلة تلك القوى الخفية في الكون مع قوى أو عناصر داخلية في الإنسان. كما اهتم المصريون القدامى بتفسير الأحلام، وكانوا يرون أن الأحلام هي رسالة من القوى الخفية في الكون إلى خبيئة الإنسان، وأن تفسيرها يقع في الحاضر والمستقبل أكثر من الماضي. كما استخدموا تفسير الأحلام في تغيير أو تبديل سلوك الإنسان حاضراً ومستقبلاً بما يعتقده مفسر الأحلام أنه الأصلح لحال الفرد الحالم، معتمداً في ذلك على العمليات الإيحائية. وقد كان يقوم بمهمة العلاج تلك بعض رجال الدين عندهم، ويتم ذلك داخل المعبد، وكان الناس يطلقون عليه المعالج المقدس. ولقد تم التعرف على الممارسات الطبية في مصر القديمة من عدة برديات طبية جاء فيها ذكر العديد من الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والانتحار. كما عرفت مصر القديمة مفهوم الاضطرابات الهستيرية وعزتها إلى حركة الرحم، وذلك قبل أن يصفها أبقراط بزمن طويل، وكانوا يعالجونها بأسباب مادية ولا ينسبونها إلى أسباب غيبية. ولقد تضمنت بردية (أبر) في كتاب القلب وصفًا تفصيليًّا للاكتئاب والخرف والسبات الحركي والسلبية وحالات الهذيان دون الحاد واضطرابات التفكير، والتي كانت في الغالب تنسب إلى أسباب مادية. ومما سبق يتبين لنا أن مفهوم المرض العقلي عند الفراعنة كان يفسر بأسباب جسدية ويعالج علاجًا (جسديًّا ونفسيًّا) رغم أن حضارتهم كانت تبالغ في عزو الأمور إلى أسباب غيبية.
ثانياً : عند الإغريق : كانت حضارة الإغريق حضارة فكر وفلسفة، وكانوا يعتقدون أن انفعالات الفرد ورغباته وكذلك القوى الخفية في الكون هي سبب الأمراض النفسية. وقد برع الإغريق في وصف الأعراض النفسية، كما وصفوا مرض الصرع وسموه (المرض المقدس)، لأن أحد ملوكهم (شؤول) كان يعاني منه. كما وصفوا أيضاً أعراض اضطراب الهوس والاكتئاب والهذيان والهستيريا، وكذلك الخرف الناتج عن عته الشيخوخة. ويعد الطبيب الإغريقي الشهير (أبقراط) هو أول من أشار إلى أن النفس مكانها المخ، وأنها هي التي تكيف الانفعالات والأفكار والأخلاط. كما اعتقد الإغريق بنظرية الأخلاط، وهي أن السوائل الموجودة في جسم الإنسان هي: البلغم، والدم، والعصارتين الكبديتين السوداء والصفراء. وبناءً على ذلك فقد قسموا سلوك الإنسان إلى أنماط تبعاً لتغلب ووفرة نوع الخلط السائل في جسم كل إنسان، فيقولون: هذا بلغمي (أي رَضِيّ الخلق)، وذاك دموي (أي سريع الانفعال والغضب)، أو سوداوي (أي الساكت الساهي المدبر)، أو صفراوي (أي الضاغن الحاقد). والطريف في الأمر أنه مازال بعض العامة يستخدمون بعض هذه المصطلحات في بعض البلاد العربية. وفي أواخر العصر الإغريقي أصبح الأطباء يتخبطون في التفريق بين النفس والقلب، وأيهما منبع الفكر، وأيهما منبع الوجدان (المشاعر والعواطف). كما قالوا: إن الإنسان يحب ويلهم ويخاف بقلبه، وأن القلب ينبض بالسوائل الدافئة، وأن الروح لا يمكنها أن تعيش إلا في وسط دافئ، ولذلك فإن الروح ـ عندهم ـ مكانها القلب لا النفس.
ثالثاً : عند الرومان :اهتم الرومان بالجوانب العملية والاجتماعية والعلاجية للطب النفسي، وقسموا الأعراض والأمراض النفسية إلى: أعراض وأمراض قابلة للشفاء، وأعراض وأمراض غير قابلة للشفاء. وقد سن الرومان العديد من القوانين التي تحمي المرضى النفسانيين وتحفظ حقوقهم، وسبقوا باقي الحضارات في ذلك. تاريخ الطب النفسي فــي بــلاد المسلميـــن لقد أسهم العلماء المسلمون السابقون إسهامات كثيرة هامة في الدراسات النفسانية، لكنها لم تحظ من قبل باهتمام الباحثين ومؤرخي الدراسات النفسانية. فالمؤرخون الغربيون يبدأون عادة بالدراسات النفسانية عند المفكرين اليونانيين، وبخاصة أفلاطون وأرسطو، ثم ينتقلون بعد ذلك مباشرة إلى المفكرين الأوربيين في العصور الوسطى، ثم في عصر النهضة الأوربية الحديثة، ويغفلون إغفالاً تاماً ذكر إسهامات العلماء المسلمين في الدراسات النفسانية، رغم أنه قد ترجم العديد منها إلى اللغة اللاتينية، وأثرت تأثيراً كبيراً في آراء المفكرين الأوربيين أثناء العصور الوسطى وحتى بداية عصر النهضة الأوربية الحديثة . ولم يكن إغفال ذكر إسهامات العلماء المسلمين في الدراسات النفسانية مقصوراً فقط على المؤرخين الغربيين، بل إننا نجد أيضاً أن العلماء العرب المعاصرين الذين يدرِّسون في الجامعات العربية مقررات في تاريخ الدراسات النفسانية يحذون حذو المؤرخين الغربيين في إغفال الإشارة إلى هذه الإسهامات. ويعد مؤرخو الفلسفة الإسلامية من العرب ومن غير العرب هم المصدر الوحيد الذي يرجع إليه الفضل في معرفتنا الحالية بإسهامات علماء الأمة الإسلامية، فقد أمدونا بملخصات مفيدة عن نظريات العلماء المسلمين في النفس البشرية. وبالرغم من الأهمية الكبيرة لتلك الملخصات إلا أنها غير كافية لإشباع رغبة علماء الأمة المعاصرين في معرفة آراء العلماء المسلمين السابقين في الموضوعات النفسانية المختلفة، من أجل أن يمكنهم من تقدير القيمة العلمية لتلك الإسهامات في تقدم عصور التاريخ. وهنا سأحاول بصورة مختصرة أن أقدم نبذة موجزة جدًّا عن تاريخ الطب النفسي في بلاد المسلمين.
ولعلي هنا أنتهج طريقة بعض من الكتب في هذا المجال فأقسم قراءتي لهذا التاريخ إلى ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : مرحلة الازدهار.
المرحلة الثانية : مرحلة التدهور .
المرحلة الثالثة : مرحلة الصحوة.
الإثنين سبتمبر 02, 2024 11:15 pm من طرف yahiaz_01
» جميع مذكرات السنة الاولى 1 ابتدائي في التربية العلمية 2022 / 2023
السبت نوفمبر 05, 2022 4:12 pm من طرف yahia_01
» مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة التربية الاسلامية 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:18 pm من طرف yahia_01
» جميع مذكرات السن ة الاولى ابتدائي في التربية المدنية الجيل الثاني 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:16 pm من طرف yahia_01
» جميع مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة الرياضيات الجيل الثاني 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:15 pm من طرف yahia_01
» مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة اللغة العربية الجيل الثاني 2022 / 2023 الجزء الثاني
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:13 pm من طرف yahia_01
» مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة اللغة العربية الجيل الثاني 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:08 pm من طرف yahia_01
» مذكرات الاجتماعيات للسنة الخامسة ابتدائي كاملة
الخميس سبتمبر 08, 2022 12:42 pm من طرف yahia_01
» مذكرات اللغة العربية للسنة الخامسةو ابتدائي كاملة لكل مقطع
الخميس سبتمبر 08, 2022 12:40 pm من طرف yahia_01