مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة الإسلامية
المساهمة في الحياة عموماً وفي البناء الإسلامي على وجه الخصوص من الفضائل التي يُمدحُ بها الإنسان, وعليه فإنّ مساهمتها رضي الله عنها في البناء الإسلامي من أجلِّ الفضائل والمناقب, ودلّ على ذلك قولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"[1], وقولُه: "الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"[2], والمخالطة نوعٌ من التفاعل مع المجتمع والناس.
إنّ من أعظم مناقبها رضي الله عنها مساهمتها الكبيرة في الحياة الإسلامية, وفي نشوء المجتمع الإسلامي, وهي من الأوائل الذين شاركوا في بناء أسس وقواعد الأمة الإسلامية, فقد وُلدت في بيت إيمانيّ متميّز في حمْلِ الدعوة؛ وشاهدت منذ نعومة أظفارها تفاصيل الحركة الإسلامية الناشئة وتفاعلت معها, تقول رضي الله عنها: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ, وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً, ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ, فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ"[3], وهذا يعني أنّ عائشة وُلدتْ معَ المحاولات الأولى, والمجاهدات العظمى في مكّة, فتشربت القيم والمعاني الإسلامية مباشرة دون حجاب.
وكان لها دور في الهجرة؛ فهي من المهاجرين الأولين, وكان دورها في الهجرة محدوداً لأنّها كانت دون ست سنوات من عمرها, ولكنّها مع ذلك شاركت أختها الكبيرة أسماء في تجهيز الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم وأبيها وهما في الغار عند الهجرة[4].
وبعد أن استقر مقام المسلمين في مدينة رسول اللَّه, أرسل أبو بكر الصديق إلى ابنه عبد اللَّه يطلب منه أن يهاجر بأهل بيته؛ فاستجاب عبد اللَّه بن أبى بكر ومضى بهم مهاجرًا، وفى الطريق هاج بعير عائشة فصاحت أم رومان: وابنتاه واعروساه, ولكن اللَّه لطف، وأسرع الجميع إلى البعير ليسكن, ونزلت السيدة عائشة مع أهلها في دار بني الحارث بن الخزرج[5].
وانظر إلى تلك الطفلة الصغيرة التي ساهمت في تجهيز الطعام, ثمّ هي اليوم تهاجر مع المؤمنين إلى المدينة المنورة؛ فهي مساهمة ومشاركة في خدمة الدين منذ أن فتحت عينيها على الحياة, وهذا من أعظم المناقب والفضائل.
ثمّ ترقّت في مساهماتها ومشاركاتها بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكمال نضوجها العقلي والجسمي, ممّا أهلها بسبب تلك العوامل الذاتية والموضوعية لمساهمة أكبر وأوسع كان لها التأثير الواضح في تاريخ الإسلام وحتى يومنا هذا.
وحجم المساهمة في هذه الحياة يعتمد على قدرات الشخص ومؤهلاته, والحقيقة التي لا ريب فيها أنّ السيدة عائشة رضي الله عنها كانت على مستوى شامخ من العلم والمعرفة يسعفها في ذلك ذاكرة حادة وذكاء لامع، فهي على جانبٍ عظيم من الدراية بأسرار الأحكام الشرعية, بالإضافة إلى معرفتها بالأمور الاجتماعيَّة والسياسية, وأهم من ذلك أنّها تربّت في بيئة ساعدتها على القيام بتلك المساهمات الجليلة, سواء وهي في بيت أبيها, أو وهي في بيت زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاجتمع لها المؤهلات والقدرات والبيئة المناسبة.
لذلك كانت مساهماتها في كلّ مناحي الحياة الإسلامية, ومن ذلك مشاركتها في الغزوات, روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ[6] الْقِرَبَ, وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ, ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا, ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ[7].
وهي رضي الله عنها مساهم أساسي في البناء الاجتماعي الإسلامي, فهي أكثر من روى في شؤون الأسرة والحياة الزوجية, لكنّها مع كل تلك المساهمات الجليلة اشتهرت في مساهمتين أساسيتين, هما: المساهمة العلمية, والمساهمة السياسية.
مساهمتها العلمية
لقد حازت رضي اللَّه عنها علمًا غزيرًا صافيًا من نبع النبوة الذي لا ينضب، فكانت "من أكبر فقهاء الصحابة, وأحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية. روي لها ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث. اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا, وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بثمانية وخمسين. روت عن خلق من الصحابة, وروى عنها جماعات من الصحابة والتابعين قريب من المائتين"[8], وتخرج من مدرسة أم المؤمنين عائشة عددٌ كبير من سادة العلماء ومشاهير التابعين، ومسند الإمام أحمد بن حنبل يضم في طياته أكبر عدد من مروياتها رضي الله عنها.
وكانت بحرًا زاخرًا في الدين، وخزانة حكمة وتشريع، وكانت مدرسة قائمة بذاتها، وكبيرة محدثات عصرها, ونابغته في الذكاء والفصاحة والبلاغة، فكانت عاملا كبيرا ذا تأثير عميق في نشر تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم[9]؛ فقد ورد عن أبى موسى رضى اللَّه عنه أنّه قال: "مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا"[10], وقيل: أنّها أفقه النساء مطلقًا[11], بلا نزاع في ذلك بين أهل العلم, يقول الذهبي: "ولا أعلم في أمه محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولا في النساء مطلقا، امرأة أعلم منها"[12].
وقد استقلت بالفتوى رضي الله عنه, وحازت على هذا المنصب الجليل المبارك منذ وفاة النبي رضي الله عنها، وأصبحت مرجع السائلين ومأوى المسترشدين، وبقيت على هذا المنصب في زمن الخلفاء كلهم إلى أن وافاها الأجل, وشهد بعلمها كبار الصحابة؛ فهذا علي يقول: "لقد علم أولوا العلم من آل محمد, وعائشة بنت أبي بكر فسألوها أنّ أصحاب ذي الثدية ملعونون على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم"[13], وكان الصحابة إذا أشكل الأمر عليهم من الدين، استفتوها فيجدون علمه عندها[14].
وشهد لها أهل التحقيق بالتقدم والإصابة[15], يقول الإمام الزُهري : "لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين, وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل"[16], وقال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة من أفقه الناس وأحسن الناس رأيا في العامة"[17], وقيل لمسروق: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ فقال: "والذي نفسي بيده لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض"[18], وعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْصَحَ مِنْ عَائِشَةَ"[19].
ومن الجدير ذكره أنّ كثيراً من الأحكام الشرعية التي عرفناها من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وخاصة تلك التي تخص النساء إنما عُرِفَت من أحاديث روتها السيدة عائشة رضي الله عنها؛ فلأم المؤمنين دورٌ مميّز في هذا المجال, لأنّ النساء حين يسألن النبي عليه الصلاة والسلام عن موضوعاتٍ تخصُّ حالَهن يسألنه غالباً وهو في بيته وبين نسائه، وأفضل من ينقل تلك الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمرأة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؛ ولهذا كان لها دورٌ كبير في الدعوة[20].
وقد اشتغلت بالفتوى من خلافة أبي بكر إلى أن توفيت, وكانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان إلى أن ماتت[21], ولم تكتفِ رضي الله عنها بما عرفت من النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما اجتهدت في استنباط الأحكام للوقائع التي لم تجد لها حكماً في الكتاب أو السنة، فكانت إذا سئلت عن حكم مسألة ما بحثت في الكتاب والسنة، فإن لم تجد اجتهدت لاستنباط الحكم، حتى قيل: إنّ ربع الأحكام الشرعية منقولة عنها[22].
ولمْ لمْ يكنْ لعائشة إلاّ هذه المنقبة العظيمة لكفاها فخراً, ولجعلها تتبوأ المقام السامي والمنزلة الرفيعة؛ فكم من مسلمٍ نفعتْ, وكم من مفسدةٍ درأتْ, بنشرها ذلك العلم الجليل, وهذا ما جعل ابن القيم رحمه الله حين عقد مفاضلة بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهنّ, أن يقول: "وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم؛ فلا ريب أنّ عائشة أعلم وأنفع للأمة, وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرُها, واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها"[23].
وفي هذا تأكيدٌ لدور المرأة في المعرفة والعلم والحياة, وهي دعوة للتأسي بأمّ المؤمنين, وهي التي كانت تقول: "رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن"[24]؛ فدعوة المرأة للعلم ليست دعوة للانحلال والسفور, وإنّما هي دعوة لما يُعينها على النهوض بوظيفتها في هذه الحياة, ويجعلها أقدر على القيام بمسؤولياتها, وفي هذا مفخرة للدّين الذي خرج هذا النموذج الباهر[25].
مَنْـهَجُهَا العَـلْمِي
اعتمدت في منهجها الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية, وساعدها في ذلك تلقيها للوحيين مشافهة من فم رسول الله, ثمّ اتكأتْ على القياس وإلحاق النظير بالنظير, وامتاز منهجها العلمي بعدة ميّزات وخصائص, أهمها:
الأولى: الحياء ليس مانعاً من موانع العلم, ودلّ على هذا قولُها: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ, لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ"[26], وعن عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: اخْتَلَفَ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ, فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّونَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنْ الدَّفْقِ أَوْ مِنْ الْمَاءِ, وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ, فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأُذِنَ لِي؛ فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّاهْ, إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ؛ فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ. قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ"[27], والشواهد كثيرة, واقتصر على ما يكفي للدلالة على منهجها.
الثانية: الأسلوب الاستدلالي[28], ويكفي أنْ أسوقَ مثالا واحدا للدلالة على قدرتها الفائقة في جمع الأدلة واستنباط الأحكام منها, بأسلوب دقيق وفهم عميق, فقد روى الترمذي عن مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ؛ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ:
مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, وَاللَّهُ يَقُولُ: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ", "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ".
وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجِلِينِي, أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى", "وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ". قَالَتْ: أَنَا وَاللَّهِ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَنْ هَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ مَا رَأَيْتُهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, يَقُولُ اللَّهُ: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولَ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ".
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, وَاللَّهُ يَقُولُ: "قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ"[29].
الثالثة: الأسلوب الاستفهامي, وهو أسلوب يدلّ على ذكاء صاحبه, وكانت رضي الله عنها تتمتع بحسن السؤال والاستفسار والمحاورة, ومن ذلك قولُها: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ" أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: "لَا, يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ, وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ, وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ, أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ"[30].
وَسَأَلْتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ", فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "عَلَى الصِّرَاطِ"[31], والناظر في أسئلتها يُدرك أنّ ميّزات هذه الشخصية الواعية المدركة.
وتأمّل حوارها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة الحساب والعرض حين سمعته قولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ". قَالَتْ: "أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا", فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ, وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ"[32], وَفي الحديث دلالة على ذكاء عائشة, وفِيهِ جَوَاز الْمُنَاظَرَة وَمُقَابَلَة السُّنَّة بِالْكِتَابِ [33]. الرابعة: القياس والمنطق العقلي
والمنطق عندها ليس متحرراً من القرآن والسنّة, بل مبنيٌّ عليهما, ومثال ذلك أنّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا أنَّ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ؛ فَقَالَتْ: "شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلَابِ, وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً, فَتَبْدُو لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ
أَنْ أَجْلِسَ فَأُوذِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ"[34]؛ فالمنطق العقلي يأبى أنْ تُشبه المرأة بالحمير والكلاب[35].
وَذُكِرَ عِنْدَها رضي الله عنها قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَتْ: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ, إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ, فَقَالَ: أَنْتُمْ تَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ"[36]أيْ "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ, وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ"[37], وهذا منطقٌ سليم, لأنّ البكاء عملُ الآخرين, والله سبحانه يقول: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْر أُخْرَى".
ولمّا سمعت بقول أبي هريرة "من غسل ميتا اغتسل, وَمن حمله توضأ", قالت رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: "أََوَنَجَّسَ موتى الْمُسْلِمِيْنَ؟ وما عَلَى رَجُل لَوْ حمل عودا"[38], وهذا الكلام منها يعتمد المنطق والقياس, وكأنّها تقول: إنّ المنطق يأبى نجاسة المسلم, ولا يوجب غسلاً لحملِ عود.
وفي ختام هذا المبحث المُختصر جداً, أُنبّه على أنّني أتحدث عن فقيهة الأمة, فهي راوية كبيرة للحديث, ومفسرة للقرآن, وأديبة خطيبة فصيحة, وما نُقلَ عنها من علم أكثر من أن يُحصى, ولكنّني ذكرتُ لمحة موجزة منه للدلالة على منقبة من مناقبها الجليلة.
الإثنين سبتمبر 02, 2024 11:15 pm من طرف yahiaz_01
» جميع مذكرات السنة الاولى 1 ابتدائي في التربية العلمية 2022 / 2023
السبت نوفمبر 05, 2022 4:12 pm من طرف yahia_01
» مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة التربية الاسلامية 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:18 pm من طرف yahia_01
» جميع مذكرات السن ة الاولى ابتدائي في التربية المدنية الجيل الثاني 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:16 pm من طرف yahia_01
» جميع مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة الرياضيات الجيل الثاني 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:15 pm من طرف yahia_01
» مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة اللغة العربية الجيل الثاني 2022 / 2023 الجزء الثاني
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:13 pm من طرف yahia_01
» مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة اللغة العربية الجيل الثاني 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:08 pm من طرف yahia_01
» مذكرات الاجتماعيات للسنة الخامسة ابتدائي كاملة
الخميس سبتمبر 08, 2022 12:42 pm من طرف yahia_01
» مذكرات اللغة العربية للسنة الخامسةو ابتدائي كاملة لكل مقطع
الخميس سبتمبر 08, 2022 12:40 pm من طرف yahia_01