هناك حقيقة لابدّ لنا أن ندركها، ونحن نتحدث عن جمالية الصورة الثابتة في القرآن الكريم، وهي أنّ البحث في آيات الجمال، ليس معناه أنّ هناك آياتٍ تحمل بُعداً جمالياً، فهي بذلك جميلة، وأخرى بعكسها، كلا، بل من الواضح أنّ الذي بين الدفتين، يشكل بمجموعه لوحةً جماليةً متكاملةً متناسقة الأبعاد، تعكس بدورها جلال وجمال خالقها، الذي يُعدّ المصدر الأوّل للجمال في هذا الكون، مهما تعدّدت مصاديقه وأشكاله، وهنا لابدّ من أن نقرّر حقيقة أخرى، وهي أنّ البحث في الأبعاد الجمالية لآيات القرآن، ليس أمراً ترفياً، لا يحمل بين طياته بُعداً فكرياً، ومضموناً خلُقياً، بل إن مفهوم الجمال الذي أكّد عليه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم): "إنّ الله جميل ويحبّ الجمال"، وحثّ على ممارسته القرآن الكريم من قبل: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 31-32)، إضافة إلى بعده الفكري والخُلُقي، وإهتمام الإسلام به، فهو يعطي لهذا الدين الحنيف، عمقاً حضارياً جديداً، ويرسّخ هذا الإعتقاد قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "النظافة من الإيمان"، والنظافة هذه، مرآة نشاهد فيها آيات الجمال في كل شيء، لذا فإنّ الجاذبية الجمالية في الإسلام، أضحت سبباً في اعتناق الكثيرين للرسالة الخاتمة. يقول المفكر المسلم روجيه غارودي : (إنّ الإنجذاب للإسلام يتمحور حول قدرة التفتح في الإسلام، وقدرة الممارسة على نطاقٍ فطري مقبول، وما في الإسلام من دعوةٍ إلى "الجمال" والتفتح والممارسة)، وبعد أن يشاهد عدداً من المساجد في العالم الإسلامي يضيف: (تلتقي كل هذه المساجد في تعبيرها الجمالي، عن قدرة الإسلام وجماله وجلاله).
فدعوة الإسلام إلى الجمال، وممارسته إياه من الأمور التي جعلت غارودي يعتنق الإسلام، وعودٌ على بدء، ولكي نبرهن على آيات الجمال الساكن نقول: قد أينعت في القرآن الكريم ثلاث واحاتٍ خضراء من الجمال هي (الثابت) و(المتحرك) و(الثابت المتحرك)، ونترك البحث لدراسات مقبلة حول القسمين الأخيرين، لنسلّط الضوء – من خلال دراستنا هذه – على ما هو ثابت من الجمال، وذلك من خلال عشرات الآيات القرآنية الكريمة، التي نكتفي بالنماذج التالية منها:
- الصورة الأولىوالنخل باسقاتٍ لها طلعٌ نضيد) (ق/ 10)، فالصورة لا تحمل شيئاً من الحركة هاهنا، وإنما ركّزت العدسة القرآنية على أمرين: (الطول) الذي تتمتع به النخيل، وثمارها المصفوفة بشكل جميل، أي الذي "قد رَكِبَ بعضه بعضاً"، وهذا هو المعنى اللغوي للنضيد، وبذلك تكون الصورة للنخيل الباسقات في أطوالها، والتي يعتليها الطلع النضيد، الذي اعتلى بعضهُ بعضاً، لا بفعل فاعل من البشر، وهذه آية الجمال المستقرة في الصورة، وقد ورد هذا المعنى في الأدب العربي، يقول "رؤية" مثلاً واصفاً أحد الجيوش:إذا تدانى لم يُفرّجْ أجَمُه يرجفُ أنضادَ الجبال هزَمُه و"أنضاد الجبال: ما تراصف من حجارتها بعضها فوق بعض". هكذا الطلع، الذي يكون تمراً بمرور الزمن، فهو متراصف بعضه فوق بعض، يسرّ الناظر. منظره، والنخلة كما أنّ لها جمالاً ظاهرياً تمثّل في الصورة آنفة الذكر، فهي تحمل بين طياتها جمالاً معنوياً، إذ تحسن لمن أساء إليها: "أرأيت إلى النخلة تقذفها بالحجر، فتسقط عليك التمر"!.
- الصورة الثانيةمُتّكئينَ على فُرشٍ بطائنها من استبرق...) (الرحمن/ 54)، لا يمكن لغير العدسة القرآنية أن تلتقط هذه الصورة، لأن مبدأ الإثارة فيها، ليس لأولئك الذين يتكئون على الفرش، إنما الصورة التي هي غاية في الجمال والروعة والإثارة لبطائن الفرش، وبتعبير أوضح، لما هو داخل هذه المتكآت، والذي عبّرت عنه الآية الكريمة بالإستبرق، الذي هو: "ما غلُظَ من الحرير والإبريسم"، فالجمال هامد جامد، ولكنّه أخّاذ وجذّاب، خصوصاً مع سكوت الصورة الملتقطة عن ظاهر تلك الفرش التي (بطائنها من إستبرق)، وهذا فنٌ قرآني خاص، حيث تريده هذه الصورة الجميلة، أن تخلع من أفئدة أهل الذوق تساؤلاً: إذا كان جمال الباطن هكذا "فكيف بظهائر هذه الفرش، إذا كانت تلك بطائنها...؟".
- الصورة الثالثةقطوفها دانية) (الحاقة/ 23)، صورة فنية رائعة تأخذ محلّها من القلب المتفتّح، والعقل المنفتح شاءَ أم أبى، لأننا نشاهد – كمثال – في حياتنا الدنيا، أن أصحاب الأذواق السليمة، لا يختلفون أنّ شجرة جميلة خضراء، توزّعت الثمار على أغصانها، سوف لا تسحر الإنسان، ولا تلقي به في شباك جمالها الأخّاذ، فتراه يرغب بالجلوس تحتها، وعلى أغصانها، وأن يكون قريباً منها دائماً وأبداً. فالشجرة المثمرة تأخذ بمجامع القلوب خصوصاً إذا كانت تلك الثمار (دانية) فالصورة المتقدمة خالية من الحركة، لأنّها تحكي قصة مشهد من مشاهد النعيم في الجنّة لذلك المؤمن الذي هو (... في عيشة راضية) (في جنة عاليةٍ) قطوفها دانية)، فاللقطة هنا لشجرة "ثمارها قريبة التناول، يأخذها الرجل كما يريد إن أحب"، فهي صورة ساكنة لشجرة أثقلت أغصانها بالثمار، فجعلتها دانية أي قريبة، يتناول الإنسان من ثمارها دون عناء، وفي كل ذلك جمال، ولكنّه على لوحةٍ جدارية...!
- الصورة الرابعةوجوهٌ يومئذٍ ناعمة) (الغاشية/ ، جمالٌ وجلال، وهيبةٌ وكمال، يرتسم أما عينيك وأنت تتطلع هذه الوجوه، فتشتاق النفس الإنسانية أن تكون منها، وتتمنّى أن تتصف بصفاتها، إذ هي (ناعمة)، وما أدراك ما الوجوه الناعمة...؟ ثمّ ما أدراك ما الناعمة...؟ إنها لقطة لوجوهٍ "ذات نظرةٍ وبهجةٍ وحسن"، إنها مرآة تعكس لنا صور وجوهٍ "ناعمةٍ ناضرةٍ ضاحكةٍ مستبشرةٍ مبيضةٍ"، إنها باختصار صورة صغيرة، لكنها اختزلت لنا في داخلها معاني كبيرة، فالعدسة القرآنية، لم تلتقط هذه الصورة للوجوه بما هي وجوه، وإنما التقطتها لها، بما هي (وجوهٌ ناعمة)، فجمال الصورة ساكنٌ وقّار، ولكنه متحرّك بالسلّم الموسيقي للفظة ناعمة.
إنّها كلمة واحدة، ولكنك ترى فيها نعيم الجنّة بكل أبعاده، فالناعمة من الوجوه مورد لهيام الإنسان في الحياة الدنيا، يقول السيّد حيدر الحلّي:
مَنْ رأى خدّيكِ قال العجبُ كيفَ في الماءِ يشعُّ اللهبُ وهذا الأمر لا ينكر جماليته من يمتلك أدنى مستوى من سلامة الذوق، وحياتنا المعاصرة أكبر شاهد على ذلك، لأننا نرى الملايين من المساحيق والدهون تصنع هذه الأيّام، والغاية منها نعومة الوجه، ويا ليتها نعومة باقية، بل هي زائلة بزوالِ مؤثرها، أمّا تلك التي رصدتها العدسة القرآنية، نعومة مشخّصة باقية بكلا بعديها، حيث النعمة وآثارها على تلك الوجوه (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) (المطففين/ 24)، وحيث اللطافةوالحسن والرقّة، التي ما غفل عنها جمال هذه الصورة الرائعة.
- الصورة الخامسةفي سدرٍ مخضود وطلحٍ منضود) (الواقعة/ 28-29)، يا له من جمالٍ باهر، وسرٍ آسر، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام "جميل يحبّ الجمال"، إنّ المصوّر المبدع جعل الإطار في هذه الصورة واحداً، وأعطاه قيمة جمالية عالية، حينما ملأهُ بصورتين جميلتين، لمنظرين مختلفين هما "شجرة النبق" و"شجرة الموز"، وهذا المعنى يكاد يتّفق عليه المفسّرون، فالصورة الملتقطة ناظرة إلى المخضود من السدر، أي "مكسور الشوك"، وإلى المنضود من الطلح، أي الذي "ركب بعضه بعضاً"، فالجمال خالٍ من الحركة، ولكنّ النفس تنجذب إليه على إستقراره، وكشاهد على ذلك، نلاحظ أنّ فاكهة الموز، اتخذت شكلاً جمالياً لنفسها يفتن العقول وتمثّل في أمرين: الأوّل: الجمال الظاهري، الذي يشع من خلال اللون الأصفر للقشر الخارجي من جسمه، ومن جهةٍ ثانية الإتحاد الذي جعل أفراد هذه الفاكهة متراصفة متماسكة ينتمي بعضها لبعض الآخر بقوّة، الأمر الثاني: الجمال الداخلي الذي يحسّ به الإنسان من خلال الطعم اللذيذ لهذه الفاكهة. عودٌ على بدء، فالقرآن الكريم لا يحدثنا عن "الموز" والنبق" بما هما فاكهتان، وإنما يعرض الصورة لشجرتين، في كل واحدةٍ منهما إثارة، حيث الأولى (السدر المخضود) خالية من الشوك، والثانية (الطلح المنضود) رصّف الثمار فيها بشكلٍ بديع وجميل ومن دون تدخل لليد البشرية في ذلك.
الإثارة الأخرى التي يطرحها المفسّرون بخصوص هاتين الآيتين (في سدر مخضود وطلح منضود)، ناظرة إلى جمال آخر – إضافة إلى جمال الثمار – وهو جمال الأوراق التي "يجمعها نوعان: أوراق صغار، وأوراق كبار، فالسدر في غاية الصغر، والطلح – وهو شجر الموز – في غاية الكبر"، من ذلك كله نفهم أنّ الجمال متداخل، في طريقة عرض الثمار، وألوانها وأوراق تلك الأشجار وأحجامها، والأملس من سيقانها، وفي كلا الصورتين جمال ساكنٌ لكنّه ممتع، ولا ينتهي الجمال بهذه المرحلة، فلو تتبعنا سياق الآيات اللاحقة، لوجدنا فيها تجانساً جميلاً جدّاً، فالشجرتان المتقدمتان هما لأصحاب اليمين، وبعبارة أوضح لأهل الجنّة، والآيات التي بعدها، تحمل لنا صورة لشجرةٍ أخرى، ولكنها لأصحاب الشمال أي لأهل النار، يقول تعالى: (لآكلون من شجرٍ من زقُّوم) (الواقعة/ 52)، إنها صورة لشجرةٍ يخدش لفظها المشاعر، إنّها شجرة الزقّوم(الواقعة/ 52)، إنها صورة لشجرةٍ يخدش لفظها المشاعر، إنّها شجرة الزقّوم، التي تعد "شجرة غبراء صغيرة الورق مدوّرتُها لا شوك لها ذفرة مُرّة". ولهذا تشترك الأشجار الثلاثة "شجرة النبق" و"شجرة الموز" و"شجرة الزقُّوم" بخصلةٍ واحدةٍ، وهي أنها مخضودة من الشوك، وهذا جمال هامد ما غفلته الصورة الملتقطة هاهنا.
- الصورة السادسةحورٌ مقصوراتٌ في الخيام)... (لم يطمثهنّ إنسٌ قبلهم ولا جان) (الرحمن/ 72-74)، الصور الجمالية التي التقطتها العدسة القرآنية "للحور" متعددة ومتنوّعة ومتخذة أساليب خاصة في الترغيب، (متكئين على سررٍ مصفوفة وزوّجناهم بحورٍ عين) "الطور/ 20)، فهذه لقطة ركّزت العدسة فيها على نقطة هي غاية في الإثارة، لأنّ هذه الحور "عِين" أي وكما يقول ابن عباس (رض): "عظام الأعين، حسان الوجوه" ومن هذا نفهم أنّ النقطة التي رصدتها العدسة هي "سعة العين"، ولا يخفى ما لسعة العين من إثارة في حياتنا الدنيا، فضلاً عن تلك العيون الواسعات الساحرات التي تحملها وجوه تلك الحور العين.
وعلى صعيد آخر نرى أنّ القرآن الكريم، حدّثنا عن "حور عين" لكن من طرازٍ آخر، حيث التركيز على المشبّه به (كأمثال اللؤلؤ المكنون) (الواقعة/ 23)، والمكنون من اللؤلؤ هو "المصون الذي لم يتعرض للمسّ والنظر، فلم تثقبه يد، ولم تخدشه عين...!". فآية (وحورٌ عين) تتبعها مباشرة آية (كأمثال اللؤلؤ المكنون)، فالقرآن الكريم يرغبنا بالحور ولكن ضمن غثارات متعددة، فحور لها عيون واسعة، وحور لم تطلها يد، فهي كاللؤلؤ المكنون، وحور أخريات تحدّثنا عنها هذه الصورة (حورٌ مقصورات في الخيام) أي "قصرن في أماكنهنّ، والنساء تمدح بذلك، إذ ملازمتهنّ البيوت تدلّ على صيانتهنّ"، فالجمال الظاهر للخيام، ومفردها خيمة، وكيف أنها رصفت بشكل منظم وجميل، وجمال باطن يكمن في الحور المصونات، اللواتي لا نصيب لغير أزواجهنّ فيهنّ، وهاهنّ داخل هذه الخيام، وجمال ثالث داخل هذه الحور، أفصحت عنه الآية الكريمة: (لم يطمثهنّ إنسٌ من قبلهم ولا جان) ومعنى ذلك "لم يمسسهنّ بالنكاح إنس ولا جان قبل أزواجهنّ"، فالبكارة جمال معنوي – وقد أشار إليه القرآن الكريم في مكانٍ آخر: (فجعلناهُنّ أبكارا) (الواقعة/ 36)، لما فيها من الترغيب – داخل الحور العين، وهذا جمال مادي داخل الخيام، والخيام بمجموعها وبمنظرها الخارجي، جمال ثلث يضفي على الجمالين بعداً تستأنس له النفوس، ولو قدّر لنا أن نشيّد للجمال عمارة بطوابقها الثلاث، لماتخطّينا هذه الآية، إلا أنّ هذا الجمال بكل تفاصيله جامد غير متحرك، ولكنه يستهوي القلوب، ويحرّك الإنسان نحو العمل الصالح، كي يرى بأم عينه، جمال تلك الخيام، وجمال المرابطات فيها، وجمال طهارتهنّ التي ما أغفلتها اللوحة المرسومة على صفحات القرآن الكريم...!
- الصورة السابعةألا ينظرون إلى الإبلِ كيفَ خُلِقت وإلى السماء كيف رُفعت وإلى الجبالِ كيف نُصبت) (الغاشية/ 17-19)، إنها دعوة مفتوحة من الخالق المصوّر المبدع، إلى العين الإنسانية، أن تتدبّر وتتأمّل، مطالبةً البشرية (... أفلا ينظرون...) أن تعي أبعاد الجمال هذه المرّة بحاسة البصر، إذ لابدّ أن تتسع فتحةُ عدسة العين الإنسانية، كي تستوعب هذه المفردات الثلاث: الإبل المخلوقة، والسماء المرفوعة، والجبال المنصوبة، ولو تأمّلنا دور حاسّة البصر في إدراكها للجمال، لوجدناها وكما يقول الدكتور محمد زغلول: "في مقدمة الحواس المقدّرة للجمال، والتي تدركه وتنقله إلى النفس يقول جويو: (إنّ الإحساسات التي يصح نعتها بالجمال على أتمّ وجه، هي الإحساسات البصرية)، حتى عرّف ديكارت (الجمال) بقوله: هو ما يروق العين".
فلقد رصد المصور المبدع، ثلاثة إرتفاعات – لكل منها جماله الخاص – ليست بغريبة عن ذهنية ذلك الحجازي في الجزيرة العربية، فهو وسط هذه الصحراء ينظر إلى الإبل، ولكن كيف خلقت...؟
وينظر إلى السماء، ولكن كيف رفعت...؟
وينظر ثالثة إلى الجبال، ولكن كيف نصبت...؟
ثلاث صور لا ينكر جمالها، وإبداع خالقها إلا الحس المتبلّد، فهذه الجمال جمالها أنها خلقت بشكلٍ يلائم وظيفتها الصحراوية، وتلك السماء الجميلة: "من ذا رفعها بلا عمد...؟ ونثر فيها النجوم بلا عدد...؟ وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال وهذا الإيحاء...؟".
أسئلة أجوبتها تكمن في القلوب والعقول المتفتّحة، والتي تفقه للجمال قيمة، فالسماء في الصحراء، غير السماء في غيرها، بل كل شيء في الصحراء يبدو أنّه يختلف عن غيره، فالشروق والزوال والمغيب، صورٌ لها إيحاءاتها هناك، وهكذا الليل وما فيه من إيقاعات وألحان تعزفها قيثارة الصحراء، فترقص النجوم على أنغامها الفاترة، حينها تخرّ النفس الإنسانية، خاشعة متصدّعة من خشية الله، وتملأ الصحراء بصوتها المدوّي: (... ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقِنا عذاب النار) (آل عمران/ 191).وتكتمل الصورة بالجبال التي كستها الطبيعة بأروع مناظرها، فلا يكاد إنسان سليم لا يبهره جمال الجبال، وعظمة خالقها، وكل ذلك الجمال للإبل المخلوقة، والسماء المرفوعة، والجبال المنصوبة، جامد هامد، وقّار لا نجد له حركة تذكر.
- الصورة الثامنةوفي الأرض قطعٌ متجاوراتٌ وجنّات من أعناب وزرع ونخيلٌ صنوانٌ وغير صنوانٍ...) (الرعد/ 4).
ثمّة حقيقة مهمة لابدّ لنا أن نقرّرها، قبل أن نضع أيدينا على اللمسات الجمالية لهذه الصورة، وهي "إنّ النفس الإنسانية إذا تكرّرت عليها أروع مناظر الطبيعة، سوف يفقدها ذلك التكرار الشعور بلذة النظرة الأولى، التي يستغرق الإنسان فيها، وتصبح تلك المناظر شيئاً معتاداً للنفس ومألوفاً"، فهذه الأرض التي تطؤها أقدام الملايين من الناس كل يوم، تحمل من مناظر الجمال الشيء الكثير، بل والكثير جدّاً، فمن ينكر جمال الأنهار والبحار، والجبال والوديان، والبساتين والغابات، والرياض والواحات... إلخ، لكنّ هذه المناظر الجميلة، نتيجة للألفة والتكرار الحاصل عن طريق المشاهدة اليومية، نرى أنّ "الكثيرين يمرّون عليها فلا تثير فيهم حتى رغبة التطلّع إليها...!"، لكنّ الرجوع إلى جمال النظرة الأولى، أو التأمّل والتدبّر في النظرات اللاحقة، سوف لا يبخس هذه القطع المتجاورات حقها من الجمال.
المفكر الإسلامي سيد قطب، حينما يدنو من هذه الآية ليتفيأ ظلالها، نجده يشير – بطرف خفي – إلى الجمال الثابت فيها، ولكنه يجعل هذا المجال ضمن لوحةٍ فنية، وذلك بيّن من خلال قوله: "ثمّ تمضي الريشة المبدعة في تخطيط وجه الأرض..."، وهكذا حينما تستوقفه الكلمة القرآنية (وزرع) يقول: "والزرع من بقول وأزهار وما أشبه. مما يحقق تلوين المنظر، وملء فراغ اللوحة الطبيعية"، ونحن نعتقد أنّ الجمال في هذه الآية لا تجمعه لوحة، وإنما هو في صورة إطارها الأرض، ولقطاتها (جنات من أعناب) (وزرع) (ونخيل"، والفرق واضح بين اللوحة التي ترسمها الريشة، وبين الصورة التي تلتقطها آلة التصوير، هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، لابدّ أن نوضّح أنّ الصورة ربّما تكون واحدة، ولكنّ اللقطات فيها مختلفة ومتعدّدة، كما هو الحال في الآية الشريفة، فلو أردنا أن نرتقي مرحلة أكثر من ذلك – أي من الصورة واللقطة – لقلنا: إنّ البعض ممن كتبوا في اللحاظ الفني للقرآن الكريم وأسّسوا له، أمثال سيد قطب، والدكتور محمد حسين الصغير، والدكتور محمود البستاني.. وغيرهم، مع أنّهم أبدعوا غاية الإبداع فيما كتبوا، لكنهم تحدّثوا عن وجود صورة في القرآن الكريم، ولكننا قد أثبتنا من خلال دراسة سابقة، أنّ القرآن الكريم فيه آلتان للتصوير، الأولى "فوتوغرافية"، والثانية "سينمائية" إن صح التعبير.
فالذوق السليم، والحسّ المرهف، هو الحاكم على الفرق بين صورة (وفي الأرض قطعٌ متحاورات وجنات وأعناب وزرع ونخيلٌ صنوانٌ وغير صنوان) وبين صورة (فيهما عينان تجرميان) (الرحمن/ 50)، أو (فيهما عينانِ نضّاختان) (الرحمن/ 60)، فالصورتان التقطتهما آلة التصوير السينمائي هاهنا، وسنسلّط الأضواء بكثافة على نماذج أخرى حين الحديث عن "مظاهر الجمال المتحرّك في القرآن الكريم" إن شاء الله، أمّا صورة (وفي الأرض...) وما تحمله من جمال فلا داعي للإطراء عليه أكثر، وما تبعها في الصور السبع، فهي ملتقطة بآية التصوير "الفوتوغرافي"، بشكلٍ جعلها مشرقة في ألوانها الطبيعية، شاخصة في تجسيمها للمنظر، ورشيقة في ما تحمله من جمال أخّاذ مع أنّه جامد وهامد وثابت...!
فدعوة الإسلام إلى الجمال، وممارسته إياه من الأمور التي جعلت غارودي يعتنق الإسلام، وعودٌ على بدء، ولكي نبرهن على آيات الجمال الساكن نقول: قد أينعت في القرآن الكريم ثلاث واحاتٍ خضراء من الجمال هي (الثابت) و(المتحرك) و(الثابت المتحرك)، ونترك البحث لدراسات مقبلة حول القسمين الأخيرين، لنسلّط الضوء – من خلال دراستنا هذه – على ما هو ثابت من الجمال، وذلك من خلال عشرات الآيات القرآنية الكريمة، التي نكتفي بالنماذج التالية منها:
- الصورة الأولىوالنخل باسقاتٍ لها طلعٌ نضيد) (ق/ 10)، فالصورة لا تحمل شيئاً من الحركة هاهنا، وإنما ركّزت العدسة القرآنية على أمرين: (الطول) الذي تتمتع به النخيل، وثمارها المصفوفة بشكل جميل، أي الذي "قد رَكِبَ بعضه بعضاً"، وهذا هو المعنى اللغوي للنضيد، وبذلك تكون الصورة للنخيل الباسقات في أطوالها، والتي يعتليها الطلع النضيد، الذي اعتلى بعضهُ بعضاً، لا بفعل فاعل من البشر، وهذه آية الجمال المستقرة في الصورة، وقد ورد هذا المعنى في الأدب العربي، يقول "رؤية" مثلاً واصفاً أحد الجيوش:إذا تدانى لم يُفرّجْ أجَمُه يرجفُ أنضادَ الجبال هزَمُه و"أنضاد الجبال: ما تراصف من حجارتها بعضها فوق بعض". هكذا الطلع، الذي يكون تمراً بمرور الزمن، فهو متراصف بعضه فوق بعض، يسرّ الناظر. منظره، والنخلة كما أنّ لها جمالاً ظاهرياً تمثّل في الصورة آنفة الذكر، فهي تحمل بين طياتها جمالاً معنوياً، إذ تحسن لمن أساء إليها: "أرأيت إلى النخلة تقذفها بالحجر، فتسقط عليك التمر"!.
- الصورة الثانيةمُتّكئينَ على فُرشٍ بطائنها من استبرق...) (الرحمن/ 54)، لا يمكن لغير العدسة القرآنية أن تلتقط هذه الصورة، لأن مبدأ الإثارة فيها، ليس لأولئك الذين يتكئون على الفرش، إنما الصورة التي هي غاية في الجمال والروعة والإثارة لبطائن الفرش، وبتعبير أوضح، لما هو داخل هذه المتكآت، والذي عبّرت عنه الآية الكريمة بالإستبرق، الذي هو: "ما غلُظَ من الحرير والإبريسم"، فالجمال هامد جامد، ولكنّه أخّاذ وجذّاب، خصوصاً مع سكوت الصورة الملتقطة عن ظاهر تلك الفرش التي (بطائنها من إستبرق)، وهذا فنٌ قرآني خاص، حيث تريده هذه الصورة الجميلة، أن تخلع من أفئدة أهل الذوق تساؤلاً: إذا كان جمال الباطن هكذا "فكيف بظهائر هذه الفرش، إذا كانت تلك بطائنها...؟".
- الصورة الثالثةقطوفها دانية) (الحاقة/ 23)، صورة فنية رائعة تأخذ محلّها من القلب المتفتّح، والعقل المنفتح شاءَ أم أبى، لأننا نشاهد – كمثال – في حياتنا الدنيا، أن أصحاب الأذواق السليمة، لا يختلفون أنّ شجرة جميلة خضراء، توزّعت الثمار على أغصانها، سوف لا تسحر الإنسان، ولا تلقي به في شباك جمالها الأخّاذ، فتراه يرغب بالجلوس تحتها، وعلى أغصانها، وأن يكون قريباً منها دائماً وأبداً. فالشجرة المثمرة تأخذ بمجامع القلوب خصوصاً إذا كانت تلك الثمار (دانية) فالصورة المتقدمة خالية من الحركة، لأنّها تحكي قصة مشهد من مشاهد النعيم في الجنّة لذلك المؤمن الذي هو (... في عيشة راضية) (في جنة عاليةٍ) قطوفها دانية)، فاللقطة هنا لشجرة "ثمارها قريبة التناول، يأخذها الرجل كما يريد إن أحب"، فهي صورة ساكنة لشجرة أثقلت أغصانها بالثمار، فجعلتها دانية أي قريبة، يتناول الإنسان من ثمارها دون عناء، وفي كل ذلك جمال، ولكنّه على لوحةٍ جدارية...!
- الصورة الرابعةوجوهٌ يومئذٍ ناعمة) (الغاشية/ ، جمالٌ وجلال، وهيبةٌ وكمال، يرتسم أما عينيك وأنت تتطلع هذه الوجوه، فتشتاق النفس الإنسانية أن تكون منها، وتتمنّى أن تتصف بصفاتها، إذ هي (ناعمة)، وما أدراك ما الوجوه الناعمة...؟ ثمّ ما أدراك ما الناعمة...؟ إنها لقطة لوجوهٍ "ذات نظرةٍ وبهجةٍ وحسن"، إنها مرآة تعكس لنا صور وجوهٍ "ناعمةٍ ناضرةٍ ضاحكةٍ مستبشرةٍ مبيضةٍ"، إنها باختصار صورة صغيرة، لكنها اختزلت لنا في داخلها معاني كبيرة، فالعدسة القرآنية، لم تلتقط هذه الصورة للوجوه بما هي وجوه، وإنما التقطتها لها، بما هي (وجوهٌ ناعمة)، فجمال الصورة ساكنٌ وقّار، ولكنه متحرّك بالسلّم الموسيقي للفظة ناعمة.
إنّها كلمة واحدة، ولكنك ترى فيها نعيم الجنّة بكل أبعاده، فالناعمة من الوجوه مورد لهيام الإنسان في الحياة الدنيا، يقول السيّد حيدر الحلّي:
مَنْ رأى خدّيكِ قال العجبُ كيفَ في الماءِ يشعُّ اللهبُ وهذا الأمر لا ينكر جماليته من يمتلك أدنى مستوى من سلامة الذوق، وحياتنا المعاصرة أكبر شاهد على ذلك، لأننا نرى الملايين من المساحيق والدهون تصنع هذه الأيّام، والغاية منها نعومة الوجه، ويا ليتها نعومة باقية، بل هي زائلة بزوالِ مؤثرها، أمّا تلك التي رصدتها العدسة القرآنية، نعومة مشخّصة باقية بكلا بعديها، حيث النعمة وآثارها على تلك الوجوه (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) (المطففين/ 24)، وحيث اللطافةوالحسن والرقّة، التي ما غفل عنها جمال هذه الصورة الرائعة.
- الصورة الخامسةفي سدرٍ مخضود وطلحٍ منضود) (الواقعة/ 28-29)، يا له من جمالٍ باهر، وسرٍ آسر، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام "جميل يحبّ الجمال"، إنّ المصوّر المبدع جعل الإطار في هذه الصورة واحداً، وأعطاه قيمة جمالية عالية، حينما ملأهُ بصورتين جميلتين، لمنظرين مختلفين هما "شجرة النبق" و"شجرة الموز"، وهذا المعنى يكاد يتّفق عليه المفسّرون، فالصورة الملتقطة ناظرة إلى المخضود من السدر، أي "مكسور الشوك"، وإلى المنضود من الطلح، أي الذي "ركب بعضه بعضاً"، فالجمال خالٍ من الحركة، ولكنّ النفس تنجذب إليه على إستقراره، وكشاهد على ذلك، نلاحظ أنّ فاكهة الموز، اتخذت شكلاً جمالياً لنفسها يفتن العقول وتمثّل في أمرين: الأوّل: الجمال الظاهري، الذي يشع من خلال اللون الأصفر للقشر الخارجي من جسمه، ومن جهةٍ ثانية الإتحاد الذي جعل أفراد هذه الفاكهة متراصفة متماسكة ينتمي بعضها لبعض الآخر بقوّة، الأمر الثاني: الجمال الداخلي الذي يحسّ به الإنسان من خلال الطعم اللذيذ لهذه الفاكهة. عودٌ على بدء، فالقرآن الكريم لا يحدثنا عن "الموز" والنبق" بما هما فاكهتان، وإنما يعرض الصورة لشجرتين، في كل واحدةٍ منهما إثارة، حيث الأولى (السدر المخضود) خالية من الشوك، والثانية (الطلح المنضود) رصّف الثمار فيها بشكلٍ بديع وجميل ومن دون تدخل لليد البشرية في ذلك.
الإثارة الأخرى التي يطرحها المفسّرون بخصوص هاتين الآيتين (في سدر مخضود وطلح منضود)، ناظرة إلى جمال آخر – إضافة إلى جمال الثمار – وهو جمال الأوراق التي "يجمعها نوعان: أوراق صغار، وأوراق كبار، فالسدر في غاية الصغر، والطلح – وهو شجر الموز – في غاية الكبر"، من ذلك كله نفهم أنّ الجمال متداخل، في طريقة عرض الثمار، وألوانها وأوراق تلك الأشجار وأحجامها، والأملس من سيقانها، وفي كلا الصورتين جمال ساكنٌ لكنّه ممتع، ولا ينتهي الجمال بهذه المرحلة، فلو تتبعنا سياق الآيات اللاحقة، لوجدنا فيها تجانساً جميلاً جدّاً، فالشجرتان المتقدمتان هما لأصحاب اليمين، وبعبارة أوضح لأهل الجنّة، والآيات التي بعدها، تحمل لنا صورة لشجرةٍ أخرى، ولكنها لأصحاب الشمال أي لأهل النار، يقول تعالى: (لآكلون من شجرٍ من زقُّوم) (الواقعة/ 52)، إنها صورة لشجرةٍ يخدش لفظها المشاعر، إنّها شجرة الزقّوم(الواقعة/ 52)، إنها صورة لشجرةٍ يخدش لفظها المشاعر، إنّها شجرة الزقّوم، التي تعد "شجرة غبراء صغيرة الورق مدوّرتُها لا شوك لها ذفرة مُرّة". ولهذا تشترك الأشجار الثلاثة "شجرة النبق" و"شجرة الموز" و"شجرة الزقُّوم" بخصلةٍ واحدةٍ، وهي أنها مخضودة من الشوك، وهذا جمال هامد ما غفلته الصورة الملتقطة هاهنا.
- الصورة السادسةحورٌ مقصوراتٌ في الخيام)... (لم يطمثهنّ إنسٌ قبلهم ولا جان) (الرحمن/ 72-74)، الصور الجمالية التي التقطتها العدسة القرآنية "للحور" متعددة ومتنوّعة ومتخذة أساليب خاصة في الترغيب، (متكئين على سررٍ مصفوفة وزوّجناهم بحورٍ عين) "الطور/ 20)، فهذه لقطة ركّزت العدسة فيها على نقطة هي غاية في الإثارة، لأنّ هذه الحور "عِين" أي وكما يقول ابن عباس (رض): "عظام الأعين، حسان الوجوه" ومن هذا نفهم أنّ النقطة التي رصدتها العدسة هي "سعة العين"، ولا يخفى ما لسعة العين من إثارة في حياتنا الدنيا، فضلاً عن تلك العيون الواسعات الساحرات التي تحملها وجوه تلك الحور العين.
وعلى صعيد آخر نرى أنّ القرآن الكريم، حدّثنا عن "حور عين" لكن من طرازٍ آخر، حيث التركيز على المشبّه به (كأمثال اللؤلؤ المكنون) (الواقعة/ 23)، والمكنون من اللؤلؤ هو "المصون الذي لم يتعرض للمسّ والنظر، فلم تثقبه يد، ولم تخدشه عين...!". فآية (وحورٌ عين) تتبعها مباشرة آية (كأمثال اللؤلؤ المكنون)، فالقرآن الكريم يرغبنا بالحور ولكن ضمن غثارات متعددة، فحور لها عيون واسعة، وحور لم تطلها يد، فهي كاللؤلؤ المكنون، وحور أخريات تحدّثنا عنها هذه الصورة (حورٌ مقصورات في الخيام) أي "قصرن في أماكنهنّ، والنساء تمدح بذلك، إذ ملازمتهنّ البيوت تدلّ على صيانتهنّ"، فالجمال الظاهر للخيام، ومفردها خيمة، وكيف أنها رصفت بشكل منظم وجميل، وجمال باطن يكمن في الحور المصونات، اللواتي لا نصيب لغير أزواجهنّ فيهنّ، وهاهنّ داخل هذه الخيام، وجمال ثالث داخل هذه الحور، أفصحت عنه الآية الكريمة: (لم يطمثهنّ إنسٌ من قبلهم ولا جان) ومعنى ذلك "لم يمسسهنّ بالنكاح إنس ولا جان قبل أزواجهنّ"، فالبكارة جمال معنوي – وقد أشار إليه القرآن الكريم في مكانٍ آخر: (فجعلناهُنّ أبكارا) (الواقعة/ 36)، لما فيها من الترغيب – داخل الحور العين، وهذا جمال مادي داخل الخيام، والخيام بمجموعها وبمنظرها الخارجي، جمال ثلث يضفي على الجمالين بعداً تستأنس له النفوس، ولو قدّر لنا أن نشيّد للجمال عمارة بطوابقها الثلاث، لماتخطّينا هذه الآية، إلا أنّ هذا الجمال بكل تفاصيله جامد غير متحرك، ولكنه يستهوي القلوب، ويحرّك الإنسان نحو العمل الصالح، كي يرى بأم عينه، جمال تلك الخيام، وجمال المرابطات فيها، وجمال طهارتهنّ التي ما أغفلتها اللوحة المرسومة على صفحات القرآن الكريم...!
- الصورة السابعةألا ينظرون إلى الإبلِ كيفَ خُلِقت وإلى السماء كيف رُفعت وإلى الجبالِ كيف نُصبت) (الغاشية/ 17-19)، إنها دعوة مفتوحة من الخالق المصوّر المبدع، إلى العين الإنسانية، أن تتدبّر وتتأمّل، مطالبةً البشرية (... أفلا ينظرون...) أن تعي أبعاد الجمال هذه المرّة بحاسة البصر، إذ لابدّ أن تتسع فتحةُ عدسة العين الإنسانية، كي تستوعب هذه المفردات الثلاث: الإبل المخلوقة، والسماء المرفوعة، والجبال المنصوبة، ولو تأمّلنا دور حاسّة البصر في إدراكها للجمال، لوجدناها وكما يقول الدكتور محمد زغلول: "في مقدمة الحواس المقدّرة للجمال، والتي تدركه وتنقله إلى النفس يقول جويو: (إنّ الإحساسات التي يصح نعتها بالجمال على أتمّ وجه، هي الإحساسات البصرية)، حتى عرّف ديكارت (الجمال) بقوله: هو ما يروق العين".
فلقد رصد المصور المبدع، ثلاثة إرتفاعات – لكل منها جماله الخاص – ليست بغريبة عن ذهنية ذلك الحجازي في الجزيرة العربية، فهو وسط هذه الصحراء ينظر إلى الإبل، ولكن كيف خلقت...؟
وينظر إلى السماء، ولكن كيف رفعت...؟
وينظر ثالثة إلى الجبال، ولكن كيف نصبت...؟
ثلاث صور لا ينكر جمالها، وإبداع خالقها إلا الحس المتبلّد، فهذه الجمال جمالها أنها خلقت بشكلٍ يلائم وظيفتها الصحراوية، وتلك السماء الجميلة: "من ذا رفعها بلا عمد...؟ ونثر فيها النجوم بلا عدد...؟ وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال وهذا الإيحاء...؟".
أسئلة أجوبتها تكمن في القلوب والعقول المتفتّحة، والتي تفقه للجمال قيمة، فالسماء في الصحراء، غير السماء في غيرها، بل كل شيء في الصحراء يبدو أنّه يختلف عن غيره، فالشروق والزوال والمغيب، صورٌ لها إيحاءاتها هناك، وهكذا الليل وما فيه من إيقاعات وألحان تعزفها قيثارة الصحراء، فترقص النجوم على أنغامها الفاترة، حينها تخرّ النفس الإنسانية، خاشعة متصدّعة من خشية الله، وتملأ الصحراء بصوتها المدوّي: (... ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقِنا عذاب النار) (آل عمران/ 191).وتكتمل الصورة بالجبال التي كستها الطبيعة بأروع مناظرها، فلا يكاد إنسان سليم لا يبهره جمال الجبال، وعظمة خالقها، وكل ذلك الجمال للإبل المخلوقة، والسماء المرفوعة، والجبال المنصوبة، جامد هامد، وقّار لا نجد له حركة تذكر.
- الصورة الثامنةوفي الأرض قطعٌ متجاوراتٌ وجنّات من أعناب وزرع ونخيلٌ صنوانٌ وغير صنوانٍ...) (الرعد/ 4).
ثمّة حقيقة مهمة لابدّ لنا أن نقرّرها، قبل أن نضع أيدينا على اللمسات الجمالية لهذه الصورة، وهي "إنّ النفس الإنسانية إذا تكرّرت عليها أروع مناظر الطبيعة، سوف يفقدها ذلك التكرار الشعور بلذة النظرة الأولى، التي يستغرق الإنسان فيها، وتصبح تلك المناظر شيئاً معتاداً للنفس ومألوفاً"، فهذه الأرض التي تطؤها أقدام الملايين من الناس كل يوم، تحمل من مناظر الجمال الشيء الكثير، بل والكثير جدّاً، فمن ينكر جمال الأنهار والبحار، والجبال والوديان، والبساتين والغابات، والرياض والواحات... إلخ، لكنّ هذه المناظر الجميلة، نتيجة للألفة والتكرار الحاصل عن طريق المشاهدة اليومية، نرى أنّ "الكثيرين يمرّون عليها فلا تثير فيهم حتى رغبة التطلّع إليها...!"، لكنّ الرجوع إلى جمال النظرة الأولى، أو التأمّل والتدبّر في النظرات اللاحقة، سوف لا يبخس هذه القطع المتجاورات حقها من الجمال.
المفكر الإسلامي سيد قطب، حينما يدنو من هذه الآية ليتفيأ ظلالها، نجده يشير – بطرف خفي – إلى الجمال الثابت فيها، ولكنه يجعل هذا المجال ضمن لوحةٍ فنية، وذلك بيّن من خلال قوله: "ثمّ تمضي الريشة المبدعة في تخطيط وجه الأرض..."، وهكذا حينما تستوقفه الكلمة القرآنية (وزرع) يقول: "والزرع من بقول وأزهار وما أشبه. مما يحقق تلوين المنظر، وملء فراغ اللوحة الطبيعية"، ونحن نعتقد أنّ الجمال في هذه الآية لا تجمعه لوحة، وإنما هو في صورة إطارها الأرض، ولقطاتها (جنات من أعناب) (وزرع) (ونخيل"، والفرق واضح بين اللوحة التي ترسمها الريشة، وبين الصورة التي تلتقطها آلة التصوير، هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، لابدّ أن نوضّح أنّ الصورة ربّما تكون واحدة، ولكنّ اللقطات فيها مختلفة ومتعدّدة، كما هو الحال في الآية الشريفة، فلو أردنا أن نرتقي مرحلة أكثر من ذلك – أي من الصورة واللقطة – لقلنا: إنّ البعض ممن كتبوا في اللحاظ الفني للقرآن الكريم وأسّسوا له، أمثال سيد قطب، والدكتور محمد حسين الصغير، والدكتور محمود البستاني.. وغيرهم، مع أنّهم أبدعوا غاية الإبداع فيما كتبوا، لكنهم تحدّثوا عن وجود صورة في القرآن الكريم، ولكننا قد أثبتنا من خلال دراسة سابقة، أنّ القرآن الكريم فيه آلتان للتصوير، الأولى "فوتوغرافية"، والثانية "سينمائية" إن صح التعبير.
فالذوق السليم، والحسّ المرهف، هو الحاكم على الفرق بين صورة (وفي الأرض قطعٌ متحاورات وجنات وأعناب وزرع ونخيلٌ صنوانٌ وغير صنوان) وبين صورة (فيهما عينان تجرميان) (الرحمن/ 50)، أو (فيهما عينانِ نضّاختان) (الرحمن/ 60)، فالصورتان التقطتهما آلة التصوير السينمائي هاهنا، وسنسلّط الأضواء بكثافة على نماذج أخرى حين الحديث عن "مظاهر الجمال المتحرّك في القرآن الكريم" إن شاء الله، أمّا صورة (وفي الأرض...) وما تحمله من جمال فلا داعي للإطراء عليه أكثر، وما تبعها في الصور السبع، فهي ملتقطة بآية التصوير "الفوتوغرافي"، بشكلٍ جعلها مشرقة في ألوانها الطبيعية، شاخصة في تجسيمها للمنظر، ورشيقة في ما تحمله من جمال أخّاذ مع أنّه جامد وهامد وثابت...!
الإثنين سبتمبر 02, 2024 11:15 pm من طرف yahiaz_01
» جميع مذكرات السنة الاولى 1 ابتدائي في التربية العلمية 2022 / 2023
السبت نوفمبر 05, 2022 4:12 pm من طرف yahia_01
» مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة التربية الاسلامية 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:18 pm من طرف yahia_01
» جميع مذكرات السن ة الاولى ابتدائي في التربية المدنية الجيل الثاني 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:16 pm من طرف yahia_01
» جميع مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة الرياضيات الجيل الثاني 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:15 pm من طرف yahia_01
» مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة اللغة العربية الجيل الثاني 2022 / 2023 الجزء الثاني
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:13 pm من طرف yahia_01
» مذكرات السنة الاولى ابتدائي مادة اللغة العربية الجيل الثاني 2022 / 2023
الجمعة نوفمبر 04, 2022 11:08 pm من طرف yahia_01
» مذكرات الاجتماعيات للسنة الخامسة ابتدائي كاملة
الخميس سبتمبر 08, 2022 12:42 pm من طرف yahia_01
» مذكرات اللغة العربية للسنة الخامسةو ابتدائي كاملة لكل مقطع
الخميس سبتمبر 08, 2022 12:40 pm من طرف yahia_01